كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)}.
قوله: {عِبَادَنَآ} قرأ ابنُ كثير {عَبْدَنا} بالتوحيد. والباقون {عبادَنا} بالجمعِ والرسمُ يحتملهما. فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف {إبراهيمَ} بدلٌ أو بيانٌ، أو بإضمار أَعْني، وما بعدَه عطفٌ على نفس {عبدَنا} لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ. ولقائلٍ أنْ يقولَ: لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه. وهذا كقراءةِ ابنِ عباس {وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ} في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع.
قوله: {الأَيْدي} العامَّة على ثبوتِ الياءِ، وهو جَمْعُ يدٍ: إمَّا الجارِحَةِ، وكنَى بذلك عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ. وقيل: المرادُ بالأيدي جمعُ يَدٍ المراد بها النعمةُ. وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش {الأَيْد} بغيرِ ياء فقيل: هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين، فأُجْرِيَتْ مع أل إجراءَها معه. وهذا ضعيفٌ جدًّا. وقيل: الأَيْد: القوةُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن انتهى. وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد. وقد يقال: إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ. وكأنه قيل: أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ. وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك.
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)}.
قوله: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى} قرأ نافعٌ وهشام {بخالصةِ ذكرَى} بالإِضافة. وفيها أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ أضافَ {خالصة} إلى {ذكرَى} للبيانِ؛ لأنَّ الخالصةَ تكونُ ذكرى وغيرَ ذكرْى كما في قولِه: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] لأنَّ الشهابَ يكونُ قَبَسًا وغيرَه. الثاني: أنَّ {خالصةً} مصدرٌ بمعنى إخلاص، فيكون مصدرًا مضافًا لمفعولِه، والفاعلُ محذوفٌ أي: بأَنْ أَخْلَصوا ذكرى الدار وتناسَوْا عندها ذِكْرَ الدنيا. وقد جاء المصدرُ على فاعِلة كالعافِية، أو يكونُ المعنى: بأَنْ أَخْلَصْنا نحن لهم ذكرى الدار. الثالث: أنها مصدرٌ أيضًا بمعنى الخلوص، فتكونُ مضافةً لفاعِلها أي: بأنْ خَلَصَتْ لهم ذِكْرَى الدار.
وقرأ الباقون بالتنوينِ وعَدَمِ الإِضافة. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها مصدرٌ بمعنى الإِخْلاص فيكون {ذكرى} منصوبًا به، وأنْ يكونَ بمعنى الخُلوص فيكون {ذكرى} مرفوعًا به كما تقدَّم ذلك، والمصدرُ يعملُ منوَّنًا كما يَعْمَلُ مضافًا، أو يكونُ {خالصة} اسمَ فاعلٍ على بابِه، و{ذكرى} بَدَلٌ أو بيانٌ لها، أو منصوبٌ بإضمارِ أَعْني، أو مرفوع على إضمار مبتدأ. و{الدار} يجوز أن يكونَ مفعولًا به بذكرى، وأن يكونَ ظرفًا: إمَّا على الاتِّساعِ، وإمَّا على إسقاط الخافض، ذكرهما أبو البقاء. وخالصة إذا كانَتْ صفةً فهي صفةٌ لمحذوفٍ أي: بسببِ خَصْلَةٍ خَالصةٍ.
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} والأَخْيار جمعُ خَيِّر، أو خَيْر بالتثقيلِ والتخفيف كأموات جمع مَيِّت أو مَيْت.
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)}.
قوله: {هذا ذِكْرٌ} جملةٌ جيْءَ بها إيذانًا بأنَّ القصةَ قد تَمَّتْ وأَخَذَ في أخرى، وهذا كما فَعَل الجاحظ في كتبِه يقول: فهذا بابٌ ثم يَشْرَعُ في آخرَ. ويَدُلُّ على ذلك: أنه لمَّا أرد أَنْ يُعَقِّبَ بذِكْر أهل النارِ ذَكَرَ أهلَ الجنة. قال تعالى: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} [ص: 55].
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)}.
قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} العامةُ على نصب {جنات} بدلًا من {حُسْنَ مَآب} سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس. ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً. وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان، وإنْ تَخالَفا تعريفًا وتنكيرًا وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ويجوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ {جناتِ عَدْنٍ} بإضمارِ فِعْلٍ. و{مُفَتَّحةً} حالٌ مِنْ {جنات عدن} أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً. وقال الزمخشري: حالٌ. والعاملُ فيها ما في {للمتقين} مِنْ معنى الفعلِ انتهى. وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله: {مُتَّكئين} تقتضي مَنْعَ {مُفَتَّحة} أَنْ تكونَ حالًا، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ. وقال: ولا يجوزُ أَنْ يكونَ {متكئين} حالًا مِنْ {للمتقين} لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل {مُفَتَّحةً} حالًا من {للمتقين} كما ذكره الزمخشري. إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك: إن لهندٍ مالًا قائمةً. وأيضًا في عبارتِه تجَوُّزٌ: فإنَّ {للمتقين} لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى، وإلاَّ فقد أخبر عن {حُسْن مآب} بأنَّه لهم. وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدرًا أي: يَدْخلونها مفتحةً.
قوله: {الأبواب} في ارتفاعِها وجهان، أحدهما:- وهو المشهورُ عند الناسِ- أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]. واعْتُرِضَ على هذا بأن {مُفتَحةً} إمَّا حالٌ، وإمَّا نعتٌ ل {جنات} وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين، أحدهما: قولُ البصريين: وهو أنَّ ثَمَّ ضميرًا مقدرًا تقديرُه: الأبوابُ منها. والثاني: أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ: أبوابُها. وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا. والوجهان جاريان في قولِه: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41]. الثاني: أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في {مُفَتَّحَةً} العائدِ على {جنات} وهو قولُ الفارسيِّ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظًا ادَّعَى ذلك. واعْتُرض على هذا: بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ، وكلاهما لابد فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم. ورَجَّح بعضُهم الأولَ: بأنَّ فيه إضمارًا واحدًا، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال: والأبواب بدلٌ مِن الضمير في {مُفَتَّحَةً} أي: مفتحةً هي الأبواب كقولك: ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال فقوله: بدلُ الاشتمال إنما يعني به الأبواب، لأنَّ الأبواب قد يُقال: إنها ليسَتْ بعضَ الجنات، وأمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ} برفعهما: إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي جناتٌ، هي مفتحةٌ.
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)}.
قوله: {مُتَّكِئِينَ} حالٌ مِنْ {لهم} العاملُ فيها {مفتحةً}. وقيل: العاملُ {تُوْعَدون} تأخَّر عنها، وقد تقدَّمَ مَنْعُ أبي البقاء أنها حال مِنْ {للمتقين} وما فيه. و{يَدْعُون} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفًا، وأَنْ يكونَ حالًا: إمَّا مِنْ ضمير {مُتَّكئين} وإمَّا حالًا ثانية.
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)}.
قوله: {تُوعَدُونَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا {يُوْعَدون} بالغَيْبة. وفي ق ابنُ كثيرٍ وحدَه. والباقون بالخطاب فيهما ووجهُ الغَيْبةِ هنا وفي ق تَقَدُّمُ ذِكْرِ المتقين. ووجْهُ الخطابِ الالتفاتُ إليهم والإِقبالُ عليهم.
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}.
قوله: {مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} {مِنْ نَفادٍ} إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ، ومِنْ مزيدةٌ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من {رزقنا} أي: غيرَ فانٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا ثانيًا.
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)}.
قوله: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} يجوزُ أَنْ يكونَ {هذا} مبتدأ والخبرُ مقدَّرٌ، فقدَّره الزمخشري: هذا كما ذُكِر. وقَدَّره أبو علي: هذا للمؤمنين. ويجوزُ أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا.
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)}.
قوله: {جَهَنَّمَ} يجوزُ أن تكون بدلًا مِنْ {شرَّ مآبٍ} أو منصوبةً بإضمار فعلٍ. وقياسُ قولِ الزمخشري في {جناتِ عدن} أن تكون عطفَ بيانٍ، وأن تكونَ منصوبةً بفعل مقدرٍ على الاشتغالِ أي: يَصْلَوْن جهنَّمَ يَصْلَوْنَها. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: هي.
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)}.
قوله: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} في {هذا} أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدًا، وخبرُه {حميمٌ وغَسَّاقٌ}. وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68]، أو يكون المعنى: هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن، ويكون قولُه: {فَلْيَذُوْقوه} جملةً اعتراضيةً. الثاني: أَنْ يكونَ {هذا} منصوبًا بمقدَّرٍ على الاشتغال أي: لِيَذُوقوا هذا.
وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40]، يعني على الاشتغال. والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم. و{حميمٌ} على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي: منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله:
حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ ** وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ

أي: منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود. الثالث: أَنْ يكونَ {هذا} مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: هذا كما ذُكِر، أو هذا للطاغين. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا، ثم استأنف أمرًا فقال: فَلْيذوقوه. الخامس: أن يكونَ مبتدًا، وخبرُه {فَلْيذوقوه} وهو رأيُ الأخفشِ. ومنه:
وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ

وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] وقرأ الأخَوان وحفصٌ {غَسَّاقٌ} بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون، وخَفَّفه الباقون فيهما. فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ، وذلك أنَّ فَعَّالًا في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء. ومِنْ ورودِه في الأسماء: الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالًا بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي: ذي غَسَقٍ. وقال أبو البقاء: أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل. قلت: وهذا غيرُ مَعْروفٍ. والغَسَقُ: السَّيَلانُ. يقال: غَسَقَتْ عينُه أي: سالَتْ. وفي التفسير: أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم. وقيل: غَسَق أي امتلأ. ومنه: غَسَقَتْ عينُه أي: امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه. ومنه قيل لليلِ: غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار. وقيل: الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة، ومنه قيل لليل: غاسِق. ويقال للقمر: غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} [الفلق: 3].
{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)}.
قوله: {وَآخَرُ} قرأ أبو عمروٍ بضمِّ الهمزةِ على أنه جمع. وارتفاعُه من أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأٌ، و{من شَكْلِه} خبرُه، و{أزواجٌ} فاعلٌ به. الثاني: أنْ يكونَ مبتدأ أيضًا، و{مِنْ شكلِه} خبرٌ مقدَّمٌ، و{أزواج} مبتدأٌ والجملةُ خبرُه، وعلى هذين فيقال: كيف يَصِحُّ مِنْ غير ضميرٍ يعودُ على أُخَر، فإن الضميرَ في {شكله} يعودُ على ما تقدَّم أي: مِنْ شكل المَذُوق؟ والجوابُ: أن الضميرَ عائدٌ على المبتدأ، وإنما أُفْرد وذُكِّر لأنَّ المعنى: مِنْ شكلِ ما ذَكَرْنا. ذكر هذا التأويلَ أبو البقاءِ. وقد منع مكي ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير، وجوابُه ما ذكرته لك. الثالث: أن يكون {مِنْ شكله} نعتًا ل أُخَر، وأزواج خبر المبتدأ أي: وأُخر من شكل المذوق أزواج. الرابع: أن يكون {من شكله} نعتًا أيضًا، وأزواجٌ فاعل به، والضميرُ عائدٌ على أُخَر بالتأويل المتقدم، وعلى هذا فيرتفعُ {أُخَرُ} على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: ولهم أنواعٌ أُخَرُ، استقرَّ مِنْ شكلها أزواجٌ. الخامس: أنْ يكونَ الخبر مقدرًا كما تقدَّم أي: ولهم أُخَرُ، ومِنْ شكلِه وأزواج صفتان ل أُخَر.
وقرأ العامَّة {مِنْ شَكْلِه} بفتح الشين، وقرأ مجاهد بكسرِها، وهما لغتان بمعنى المِثْل والضرب. تقولُ: هذا على شَكْلِه أي: مِثْله وضَرْبه. وأما الشِّكْلُ بمعنى الغُنْج فالبكسر لا غير، قاله الزمخشري.
وقرأ الباقون {وآخَرُ} بفتح الهمزة وبعدها ألفٌ بصيغةِ أَفْعَل التفضيل، والإِعرابُ فيه كما تقدَّم. والضمير في أحدِ الأوجه يعودُ عليه مِنْ غيرِ تأويل لأنه مفردٌ. إلاَّ أنَّ في أحد الأوجه يَلْزَمُ الإِخبارُ عن المفردِ بالجمع أو وَصْفُ المفردِ بالجمع؛ لأنَّ مِنْ جملة الأوجهِ المتقدمةِ أنْ يكونَ {أزواج} خبرًا عن {آخر} أو نعتًا له كما تقدَّم. وعنه جوابان، أحدُهما: أن التقديرَ: وعذابٌ آخرُ أو مَذُوقٌ، وهو ضُروب ودرجاتٌ فكان في قوةِ الجمع. أو يُجْعَلُ كلُّ جزءٍ من ذلك الآخرِ مثلَ الكلِّ، وسمَّاه باسمِه وهو شائعٌ كثيرٌ نحو: غليظ الحواجب، وشابَتْ مفارِقُه. على أنَّ لقائلٍ أنْ يقولَ: إنَّ أزواجًا صفةٌ لثلاثةِ الأشياءِ المتقدِّمة، أعني الحميم والغَسَّاق وآخرُ مِنْ شكلِه فيُلْغى السؤالُ.
{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)}.
قوله: {مُّقْتَحِمٌ} مفعولُه محذوفٌ أي: مقتحِمٌ النارَ. والاقتحام: الدخولُ في الشيء بشدَّة، والقُحْمَةُ: الشدةُ. وقال الراغب: الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ. ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي: توغَّل به ما يُخافُ منه. والمقاحيم: الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب.
قوله: {معكم} يجوزُ أَنْ يكونَ نعتًا ثانيًا ل فَوْج، وأَنْ يكونَ حالًا منه لأنه قد وُصِفَ، وأَنْ يكونَ حالًا من الضمير المستتر في {مُقْتَحِم}. قال أبو البقاء: ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفًا لفسادِ المعنى، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟
وقوله: {هذا فَوْجٌ} إلى قوله: {النار} يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ، ويجوز أَنْ يكونَ {هذا فَوْجٌ} مِنْ كلامِ الملائكة، والباقي من كلام الرؤساء، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال: بل هم لا مَرْحبًا بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّيًا منهم.
قوله: {لاَ مَرْحَبًا} في {مَرْحبًا} وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي: لا أتَيْتُمْ مَرْحبًا أو لا سَمِعتم مرحبًا. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ. قاله أبو البقاء أي: لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحبًا بَلْ ضَيِّقًا. ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم، وقوله: {بهم} بيانٌ للمدعُوِّ عليه. والثاني: أنها حاليةٌ. وقد يُعْتَرَضُ عليه: بأنه دعاءٌ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالًا. والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي: مَقُولًا لهم لا مَرْحبًا.
{قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)}.
قوله: {مَن قَدَّمَ} يجوزُ أَنْ تكونَ مَنْ شرطيةً، و{فَزِدْه} جوابَها، وأنْ تكونَ استفهاميَّة، و{قَدَّم} خبرُها. أي: أيُّ شخصٍ قَدَّم لنا هذا، ثم استأنفوا دُعاءً بقولِهم {فَزِدْه} وأنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وحينئذٍ يجوزُ فيها وجهان: الرفعُ بالابتداء، والخبر {فَزِدْه} والفاءُ زائدةٌ تَشْبيهًا له بالشرطِ. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغالِ، والكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ قد تقدَّم، وهذا الوجهُ يجوزُ عند بعضِهم حالَ كونِها شرطيةً أو استفهاميةً أعني الاشتغالَ، إلاَّ أنَّه لا يُقَدَّرُ الفعلُ إلاَّ بعدها؛ لأنَّ لها صدرَ الكلامِ و{ضِعْفًا} نعتٌ لعذاب أي: مضاعَفًا.
قوله: {في النارِ} يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفًا ل زِدْه، أو نعتًا ل {عذاب} أو حالًا منه لتخصيصِه، أو حالًا من المفعول زِدْه.
{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)}.
قوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ} قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ الهمزةِ، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما، أَنْ يكونَ خبرًا مَحْضًا، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل {رِجالًا} كما وقع {كنا نَعُدُّهم} صفةً، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله:
تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ** وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ

ف أم متصلةٌ على هذا، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ. والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ. والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ. وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي: رجالًا مَقُولًا فيهم: أتخذناهم كقوله:
جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ

إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ. وقد تقدَّم الخلافُ في {سِخْرِيًَّا} في {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون}. والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر:
إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها ** مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ

وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك. وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما تقدَّم، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك: أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ {أم زاغَتْ} متصلًا بقوله: {ما لنا} لأنه استفهامٌ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ، ويكون ما بينهما معترضًا على قراءةِ {أتَّخَذْناهم} بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ.